لكل من تساءل يومًا عن ماهية سياسة "أمريكا أولاً" في مجال السياسة الخارجية، فقد قدّم (دونالد ترامب) اليوم مثالًا حيًا على ذلك حين أعلن وقف إطلاق النار مع جماعة الحوثي، الميليشيا اليمنية التي تتعرض للقصف الأميركي منذ سبعة أسابيع.
و قال ترامب إن الحوثيين "رضخوا" ووافقوا على التوقف عن استهداف السفن الأميركية، وذلك خلال إعلانٍ مفاجئ قاطع به اجتماعًا مع رئيس الوزراء الكندي (مارك كارني)، في خطوة بدت وكأنها فاجأت بعض أعضاء فريقه. وبالمقابل، أضاف الرئيس، ستوقف الولايات المتحدة حملتها الجوية ضد الحوثيين.
وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة قد نزعت نفسها من عمق الصراع دون أن تُنهيه. فلا مؤشرات تدل على أن الحوثيين سيتوقفون عن قتالهم ضد إسرائيل، حيث أطلقوا صاروخًا يوم الأحد سقط قرب المطار الرئيسي في إسرائيل، مما أشعل جولة جديدة من العنف، شنت خلالها إسرائيل ضربات على مواقع متفرقة في اليمن، أسفرت عن اندلاع النيران في مطار البلاد الرئيسي. وأصدر الحوثيون بيانًا تحديًا أكدوا فيه أن "الاعتداءات الإسرائيلية لن تمرّ من دون رد"، وأن حكومة الحوثيين "لن تتراجع عن موقفها مع غزة".
وقد شكّك بعض المحللين في ما إذا كانت الهدنة الأميركية تشمل بريطانيا وحلفاء غربيين آخرين، تعرّضت سفنهم أيضًا لهجمات من قبل الحوثيين. وإن لم يكن الأمر كذلك، فإن مفهوم "أمريكا أولاً" سيبلغ مستوى غير مسبوق، في حين قد تشهد العلاقات عبر الأطلسي تدهورًا جديدًا. وفي محادثة عبر تطبيق "سيغنال" سيئ السمعة بين كبار مسؤولي إدارة ترامب في مارس/ آذار الماضي، أعرب نائب الرئيس (جي دي ڤانس) عن تردده في الانخراط في حرب باليمن إذا كان ذلك يعني تقديم خدمة لحلفاء أميركا الأوروبيين، الذين تعرّضت سفنهم بدورهم لهجمات حوثية.
لكن بيان وزير الخارجية العُماني (بدر بن حمد البوسعيدي)، الذي لعبت بلاده دورًا في المباحثات التي أفضت إلى الاتفاق، أوحى بأن الهدنة قد تشمل دولًا غربية أخرى، إذ قال البيان إنها ستضمن "السير السلس لحركة الملاحة التجارية الدولية".
و يُعدّ هذا الاتفاق بمثابة هدنة مرحّب بها لإدارة ترامب، التي كانت حربها ضد الحوثيين تقترب من أن تتحوّل إلى مستنقع حقيقي. فرغم أن الضربات الأميركية الأخيرة ألحقت بعض الأضرار بالجماعة اليمنية، إلا أنها كانت بعيدة عن تحقيق هدف ترامب المُعلن وهو "إبادة الميليشيا بالكامل". ولا يزال الحوثيون يُشكّلون تهديدًا خطيرًا على منطقة الخليج بأسرها، بعدما أثبتوا خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية قدرتهم على تعطيل حركة الملاحة الدولية متى شاؤوا.
و لم تصدر جماعة الحوثي أي تصريحات رسمية بشأن الهدنة، وهو ما دفع بعض المحللين للتساؤل عن الكيفية التي سيتعامل بها قادة جماعة إسلامية تتأسس عقيدتها على العداء لأميركا وإسرائيل مع إدارة أميركية لا تُظهر حتى أدنى محاولة لكبح جماح الحرب الإسرائيلية على غزة.
وقال (برنارد هيكل)، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون:
"لو كنت حوثيًا، فلن يكون هذا هو التوقيت المناسب لعقد اتفاق كهذا، في وقت لا تزال فيه غزة تحترق، وأجزاء واسعة من اليمن تتعرض لهجمات إسرائيلية."
ويُحتمل أن يكون أحد دوافع توقيت الاتفاق هو أن إدارة ترامب والإيرانيين يدورون في فلك اتفاقٍ جديد للحد من الطموحات النووية الإيرانية.
فإيران تُعدّ الراعي العسكري الرئيسي والداعم السياسي الأبرز للحوثيين، وتمتلك نفوذًا كبيرًا عليهم. وربما رأت طهران في الهدنة فرصة لتقديمها كبادرة حسن نية ضمن مفاوضات الملف النووي، كما اقترح ذلك (محمد الباشا)، المحلل اليمني ومؤسس "تقرير الباشا".
ويقود (ستيڤن ويتكوف)، مبعوث ترامب، هذه المحادثات مع إيران، وكان سريعًا في إعادة نشر إعلان وزير الخارجية العُماني بشأن اتفاق الحوثيين على منصة X عصر هذا اليوم.
وقد يكون لإعلان ترامب أيضًا صلة بزيارته المرتقبة إلى منطقة الخليج، حيث من المقرر أن يلتقي قادة المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر.
وقد دأب السعوديون على حثّ النظام الإيراني على التوصل إلى اتفاقٍ نووي مع الولايات المتحدة، بل إنهم أرسلوا وزير دفاعهم الشهر الماضي إلى طهران للقاء المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية (آية الله علي خامنئي).
وتحدّث ترامب عن رحلته المقبلة خلال اجتماعه في المكتب البيضاوي مع رئيس الوزراء الكندي كارني اليوم، مضيفًا أنه سيُدلي بـ"إعلان كبير جدًا جدًا" قبل مغادرته البلاد.
وإذا ما تبيّن أن هذا الإعلان يتعلق باتفاق جديد لكبح الطموحات النووية الإيرانية، فقد يكون للحوثيين دور غير مباشر فيه.
لقراءة المادة من موقعها الأصلي يرجى الدخول على الرابط التالي: