الشنق هو وسيلة الإعدام المفضلة في إيران، رغم أن الرجم والصَلب لا يزالان خيارين بديلين في ظل نظام ثيوقراطي لا يكلّ عن الانتقام.
الموت شنقًا لا يحدث بالضرورة بسرعة؛ إذ قد تستغرق عملية الاختناق ونقص الأوكسجين عدة دقائق. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 600 شخص أُعدموا قضائيًا منذ بداية هذا العام، ما يجعل إيران تسجّل أعلى معدل إعدامات للفرد في العالم. ومنذ الهجمات الأمريكية والإسرائيلية في يونيو/ حزيران، تزايد عدد الضحايا من المعارضين السياسيين.
وبعد مرور خمسين يومًا، لم تُحقق الغارات الجوية والضربات الصاروخية غير القانونية التي شنّها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي نتائج إيجابية تُذكر، رغم مزاعمهما بتحقيق “نجاح غيّر موازين العالم”. فلم تُدمّر المرافق النووية الإيرانية كما ادّعى ترامب، ولم تتخلَّ طهران عن تخصيب اليورانيوم، كما لم يسقط النظام، رغم دعوة نتنياهو إلى انتفاضة. بل على العكس، بدا المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أكثر تحديًا، إذ أطلق حملة قمع جديدة استهدفت المعارضين، وهو ما يفسّر تصاعد وتيرة الإعدامات.
وقد أدانت منظمة العفو الدولية شنق السجينين السياسيين بهروز إحساني ومهدي حسني نهاية الأسبوع الماضي، مشيرة إلى وجود صلة مباشرة بين مصيرهما والهجمات الأمريكية-الإسرائيلية. وكان الرجلان قد اعتُقلا في عام 2022 بتهم “التمرد” و”العداء لله”، وتعرّضا للتعذيب والإكراه على توقيع اعترافات، ثم حُكم عليهما بالإعدام العام الماضي بعد محاكمة لم تتجاوز خمس دقائق. واعتبرت المنظمة أن تنفيذ الحكم في هذا التوقيت “يُسلّط الضوء على استخدام السلطات الوحشي لعقوبة الإعدام كأداة للقمع السياسي في أوقات الأزمات الوطنية، بهدف سحق المعارضة ونشر الخوف”.
ومنذ يونيو/ حزيران الماضي، اعتُقل المئات في إطار حملة يشنّها النظام لكشف “الجواسيس” والمتعاونين، سواء أكانوا حقيقيين أم متخيّلين.
وفشل أجهزة الاستخبارات الفادح –مثل تمكُّن إسرائيل من تحديد موقع اجتماع لمجلس الأمن القومي الإيراني وقصفه، ما أدى إلى إصابة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان– لم يُنسَب رسميًا إلى تقصير أو ضعف مؤسسي، بل وُجّهت أصابع الاتهام إلى “طابور خامس” مزعوم. ويسعى البرلمان الإيراني حاليًا إلى توسيع نطاق تطبيق عقوبة الإعدام، في وقت يواجه فيه ما يصل إلى 60 سجينًا سياسيًا خطر التنفيذ الوشيك.
وجاء هذا الرد القاسي، الذي أصبح سمة معتادة للتيار الديني المتشدد المحيط بالمرشد الأعلى علي خامنئي، ولدوائر القضاء والحرس الثوري، رغم موجة من الغضب الشعبي العارم أعقبت الهجمات، والتي أفادت التقارير بأنها أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 935 شخصًا، معظمهم من المدنيين، وإصابة أكثر من 5,000 آخرين. غير أن النظام، ومن خلال تصعيد القمع، أضاع فرصة لاستثمار هذا الغضب الشعبي، لا سيما تجاه بريطانيا وحكومات أوروبية أخرى اختارت تجاهل ما حدث.
وقد أدّت التحركات الأمريكية-الإسرائيلية إلى تداعيات سلبية واسعة النطاق. إذ اعتُبرت الهجمات انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، بحسب تكتل “بريكس” لدول الجنوب العالمي. كما دفعت طهران إلى تعليق عمليات التفتيش النووي التي تجريها الأمم المتحدة، وأسهمت في تعميق الانقسام بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية. والمفارقة أن هذه الهجمات رفعت من احتمالية لجوء إيران إلى بناء سلاح نووي، بدعوى الدفاع عن النفس.
وتُصرّ إيران على أنها لا تمتلك أسلحة نووية ولا تسعى لامتلاكها.
ورغم ما يُشاع عن القدرات الاستخباراتية المتقدمة لإسرائيل، لم يتمكن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، ولا غيره، من تقديم دليل قاطع يثبت عكس ذلك. فقرار شنّ الهجوم استند إلى افتراضات، مدفوعة بالخوف والكراهية. وقد ألحق الهجوم أضرارًا مادية جسيمة، لكنه لم يُحدث تحوّلًا في العقليات. وتؤكد طهران تمسكها بمواصلة تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية. وبالنظر إلى نتائجه، فقد فشل القصف في تحقيق أهدافه. أما تهديد دونالد ترامب الغاضب بشنّ ضربات جديدة، فلا يُعدّ إلا تأكيدًا على فشل الضربة الأولى.
لكن هذا العمل العدواني الطائش شجّع دولًا مارقة، مثل روسيا، على الاعتقاد بإمكانية مهاجمة دول أخرى دون محاسبة. كما عزّز قناعة دوائر الحكم في طهران –وليس فقط بين التيارات المتشددة– بأن الغرب لا يُعوّل عليه، وأن تعميق التحالف مع الصين بات ضرورة استراتيجية. وهو ما أعطى دفعة قوية للمتشددين الذين لطالما تبنّوا سياسة الحروب بالوكالة في المنطقة، والذين كُشف مؤخرًا عن تورّطهم في عمليات سرّية استهدفت بريطانيا، مما زاد من ترسيخ وضع إيران كدولة منبوذة دوليًا.
ومن منظور تاريخي، تُعدّ الحالة الإيرانية مأساة كان يمكن تجنّبها، وأحد أسوأ الإخفاقات الجيوسياسية للغرب على الإطلاق.
فالدعم الأعمى لنظام الشاه ساهم في إشعال فتيل ثورة 1979. وبعدها، جاء صعود رجال الدين المحافظين –وهو تطور لم يكن حتميًا– ليقترن بعداوة أمريكية غير عقلانية تغذت لعقود على ذكريات أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، ما جعل القطيعة بين الطرفين دائمة. وحاولت أوروبا، دون جدوى، رسم مسار وسط. وفي عام 2018، تراجع ترامب عن الاتفاق النووي الذي كانت قد صادقت عليه الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأعاد فرض العقوبات على طهران. وكان هذا القرار –الذي يُعدّ أحد أسوأ الأخطاء في السياسة الخارجية الأمريكية– سببًا مباشرًا في حالة الجمود الراهنة. ومع قدر من الحكمة السياسية، كان يمكن أن تسير الأمور في اتجاه مختلف تمامًا.
ينبغي لجميع أطراف هذا الصراع أن يتأملوا أفكار الفيلسوف الفرنسي من عصر التنوير، شارل دو مونتسكيو، المعروف بعدائه للاستبداد بجميع أشكاله.
ففي كتابه الشهير “رسائل فارسية” الذي نُشر عام 1721، أي قبل أكثر من 300 عام، أطلق تحذيرًا بالغ البصيرة بشأن أسلحة دمار شامل كانت آنذاك مجرد خيال. ففي إحدى الرسائل، يكتب المسافر الفارسي الخيالي “أوزبك” إلى صديقه:
“تقول إنك تخشى اكتشاف وسيلة تدمير أشد فتكًا مما يُستخدم الآن؛ وإن حصل ذلك، فإن هذه الوسيلة الكارثية ستُحظر بموجب القانون الدولي، وستُدفن بإجماع جميع الدول.”
وبالمعنى القانوني، فإن حظر الأسلحة النووية يجعل من نبوءة “أوزبك” تفاؤلية لكنها صحيحة جزئيًا. إلا أن الواقع يؤكد أن “ليست كل الدول” تلتزم بذلك. فإذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل جادتين فعلًا في منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، فعليهما أن تبادرا بتقديم النموذج، من خلال تقليص ترسانتيهما النوويتين، والسعي في نهاية المطاف إلى التخلص منها بالكامل. كما ينبغي أن تتوقفا عن إطلاق التهديدات بشنّ هجمات جديدة، وأن تدعما المقترح الإيراني بشأن عقد اتفاق إقليمي لنزع السلاح النووي، كما دعا إليه وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف.
عندها فقط، ربما، تعود طهران إلى المجتمع الدولي. وعندها فقط، ربما، يتوقف قادتها المهووسون بالخوف عن شنق الأبرياء.
الرابط ادناه لقراءة المادة من موقعها الأصلي:،