في صباحٍ هادئ من عام 2018، خرجت زهرة ناصر برفقة أختها وطفل الأخيرة إلى وادي الغول في منطقة قانية التابعة لمديرية ماهلية بمحافظة مأرب. كان الخروج لجمع الحطب أمرًا اعتياديًا في حياتهن اليومية، نتيجة انعدام الغاز المنزلي وارتفاع أسعاره، إذ لا تصل إمداداته للمنطقة إلا مرة كل عدة أشهر، ما دفع بالكثير من الأسر للاعتماد على الحطب كوسيلة للبقاء. غير أن الرحلة اليومية التي اعتادت عليها زهرة وأختها تحولت إلى كارثة مروعة.
كانت زهرة تمشي أمامي ببضع خطوات فقط، ثم دوى الانفجار.. كل شيء احترق. بهذه الكلمات تسترجع صالحة وهي شقيقة زهرة اللحظة التي انقلب فيها كل شيء. وتواصل "استيقظت بعد عشرين يومًا من الغيبوبة على خبر وفاة شقيقتي.. وتمنيتُ أنني لم أفق".
فقدت زهرة حياتها في الانفجار الذي نتج عن لغم أرضي مموّه وسط كومة حطب. أختها، الناجية الوحيدة، أصيبت بإصابات خطيرة في العمود الفقري أقعدتها عن الحركة منذ ذلك اليوم، وأصابها داء السكري لاحقًا نتيجة الصدمة النفسية والجسدية. لا تستطيع اليوم المشي، ولا حتى قضاء حاجاتها دون مساعدة.
أما طفل زهرة، فقد نجا من الموت بأعجوبة، لكنه فقد إحدى عينيه، وبقيت آثار الانفجار محفورة على جسده، وذاكرته الصغيرة تحمل مشهد أمه وهي تتناثر أمامه.
تتابع صالحة، بصوت خافت تقطعه الدموع: "لم أعد أستطيع التحرك، لا أستطيع حتى الذهاب إلى دورة المياه إلا بمساعدة. أصبحتُ ثقيلة على من حولي.. وكل ليلة أنام وأنا أتمنى لو أنني ذهبت بدلًا عن أختي".
تشير إلى ندبة غائرة في جسدها وتقول:"هذه واحدة فقط من آثار الانفجار، وجسدي بدأ يتقرّح من طول الرقود، لا أتحرك من مكاني منذ سنوات، لكن الألم الحقيقي هنا"، وتضع يدها على صدرها، "الغياب لا يُشفى.. ولا الذاكرة تنسى."
تعيش صالحة اليوم في مأوى بدائي مصنوع من حاويات شحن معدنية، في أطراف مدينة مأرب، بلا تجهيزات صحية، ولا خدمات أساسية، ولا رعاية مستمرة. وتتابع: "لا توجد مراكز طبية قريبة، ولا قدرة لنا على التنقل. حتى الأدوية لا أستطيع توفيرها دائمًا. وضعنا المادي صعب جدًا، وأسرتي بالكاد تستطيع أن توفر لنا لقمة العيش، لا أحد طرق بابنا، لا منظمة، لا مسؤول، ولا حتى وحدة صحية تسأل عنّا.. حياتنا أصبحت بلا قيمة."
قصة صالحة، كأختها الراحلة زهرة، تمثل مأساة مجتمعية مركبة تعاني منها مناطق التماس والمناطق الملغومة.
في قانية، كما في مناطق يمنية أخرى، لا تزال الألغام تمزق الجسد المدني، وتحاصر النساء في بيوت البؤس، وتترك الأطفال بلا أمان ولا مستقبل.
إنها صرخة منسية من عمق الصحراء، من ضحايا لا يملكون سوى الانتظار في العراء.. والنجاة من الموت، لتبدأ رحلة أخرى مع الألم.
ضحايا الألغام
بحسب آخر تقرير صدر عن مكتب حقوق الإنسان في محافظة مارب لعامي 2023–2024، فإن الألغام والمقذوفات والصواريخ التي زرعتها جماعة الحوثي، تسببت في مقتل 43 مدنيًا في محافظة مارب، بينهم 28 رجلًا، و8 نساء، و7 أطفال، وفقًا للإحصائيات الرسمية الصادرة عن المكتب.
وأشار التقرير إلى أن عدد الإصابات الناجمة عن هذه الألغام لا يزال في تزايد، حيث بلغ عدد الجرحى من الرجال 98 حالة، ومن النساء 23 حالة، بينما سُجلت 16 إصابة بين الأطفال، ليصل إجمالي الإصابات إلى 137 ضحية خلال عامي 2023 – 2024م.
وأوضح التقرير أن استمرار سقوط الضحايا، خاصة في المناطق التي لم تُطهر بالكامل بعد، يكشف حجم التهديد الذي تمثله هذه الألغام والمقذوفات، ويُظهر الحاجة الملحة لتكثيف جهود نزعها، وتوفير الدعم الإنساني والطبي للمصابين، وضمان بيئة آمنة للمدنيين.
مساحة آمنة
أكد مصدر مسؤول في مشروع "مسام" لنزع الألغام، بأن المشروع تمكن من تحقيق إنجازات نوعية في محافظة مارب خلال عامي 2023 و2024، تمثلت في تأمين مساحات واسعة من الأراضي التي كانت ملوثة بالألغام والمتفجرات المختلفة.
وأشار إلى أن الفرق الهندسية التابعة لـ"مسام" نجحت في نزع ما يزيد عن 119 ألف مادة متفجرة، تنوعت بين ألغام مضادة للأفراد والدبابات، وذخائر غير منفجرة، وعبوات ناسفة زرعت في مناطق آهلة بالسكان أو قريبة من خطوط التماس.
ووفقًا للبيانات التفصيلية، تمكنت فرق "مسام" خلال العام 2023 من تطهير أكثر من عشرة ملايين متر مربع من الأراضي، ونزع أكثر من 47 ألف مادة متفجرة. فيما واصلت عملياتها خلال العام 2024 لتأمين ما يزيد عن 9.5 مليون متر مربع أخرى، وإزالة أكثر من 44 ألف لغم وعبوة ناسفة.
وأكد المسؤول في المشروع أن هذه الجهود تأتي في سياق التزام مستمر بحماية حياة المدنيين، وتمكين المجتمعات المحلية من العودة إلى أراضيها بأمان، مشددًا على أن محافظة مارب تظل واحدة من أكثر المحافظات اليمنية تلوثًا بالألغام، ما يتطلب مواصلة العمل بوتيرة عالية وتعاونًا مستمرًا بين الجهات المحلية والدولية.
خطر مستمر
في الوقت الذي يواصل فيه مشروع "مسام" جهوده الكبيرة لتطهير محافظة مأرب من الألغام، لا تزال المآسي الإنسانية شاهدة على حجم الكارثة التي سببتها هذه الألغام في حياة المدنيين.
بين الأرقام الرسمية والخرائط المؤمنة، تقف قصة زهرة كشاهد حي على ما تعنيه الألغام في اليمن، كخطر يهدد الحياة، وتخلف معاقين وجرحى ونفوسًا مكسورة. فرغم الجهود المبذولة، ما زالت الحاجة ماسة لتسريع وتيرة العمل وتوسيع نطاقه ليصل إلى المناطق النائية، حيث يعيش السكان تحت تهديد مستمر، لا يعرفون متى ينفجر تحت أقدامهم ما تركته الحرب خلفها.