وجوه من اليمن: محمد المساح... خلد "لحظته" ورحل
يمن فيوتشر - متابعات السبت, 20 أبريل, 2024 - 07:08 صباحاً
وجوه من اليمن: محمد المساح... خلد

صاحب العمود الشهير "لحظة يا زمن" محمد المساح يغادر بعيدًا هذه المرة خارج الزمن، بعد حياة مهنية فارقة، استمرت أكثر من نصف قرن تولى خلالها، في النصف الثاني من القرن المنصرم، رئاسة تحرير صحيفة "الثورة" الحكومية الصادرة في صنعاء، دون أن تفارقه دائمًا حميمية المقال ذائع الصيت، الذي حلّق به عاليًا نحو غيم الكتابة الصحفية المنثورة أدبًا، فيما جُمعت كتاباته وشهادات عنه، من زملاء ورفاق دربه، في نحو 222 صفحة عن مؤسسة أروقة، جاءت في كتاب تحت عنوان "لحظة يا زمن محمد المساح".

إليكم محطات حياة الفقيد كما جاءت على لسانه في الكتاب: 
المحطة الأولى: القرية، الميلاد، الطفولة
1948م عام مولدي، وهو تاريخ تقريبي لأنه لا يوجد توثيق وقتها. مولدي سنة «المجارين»، لأن الإمام كان يأخذ الجباية من الناس في تلك المواسم الزراعية.
في السادسة ذهبت إلى "المعلامة"... قرأت "الألفباء"... نزلت إلى عدن وأنا في عمر الثامنة أو التاسعة. خلال هذه الفترة تولد حبي للقراءة والمطالعة.

المحطة الثانية في حياتي كانت عدن:
لي إلى عدن نزلتان: الأولى كانت وعمري عشر سنوات تقريبا، كان سفري إلى والدي الذي يعمل في عدن.. سافرت لكي أساعده، ولكنه أدخلني المدرسة لكي أتعلم. أول ما وصلت عدن تفاجأت بالكهرباء...
درست في مدرسة «العجيل» لمدة سنة، وقد كانت مدرسة أهلية لأبناء الشماليين لأنهم لا يقدرون أن يدخلوا مدارس حكومية... وفي تلك الأثناء أخذني أبي لأتعلم القرآن في مسجد البيحاني بعد عصر كل يوم، مع أن والدي كان لا يقرأ ولا يكتب، لكنه غرس في نفسي حب العلم، وكان رجلا متدينا وشخصا عاملا، وكان يحضر حلقات القرآن في مسجد البيحاني.
كان أبي يعمل في عدن بائعا متجولا يبيع التمباك وكان يحمله فوق رأسه، وفي كل يوم جمعة كان يربط أربع حزم ويلفها في «الطربال» وأحملها فوق رأسي ونمشي...
الحاج فارع رباني وكنت أشتغل في بيته وأدرس، كان يحب العلم ويدعم المتعلمين، كنا نشتغل في مقهاية فارع نغسل الصحون وكؤوس الشاي... ظللت فيها لمدة ثلاث سنوات إلى أن سافر أبي إلى السعودية وسافرت بعده...

المحطة الثالثة من حياتي كانت جدة السعودية.
سافر أبي إلى جدة قبلي، وأنا سافرت مع الحجاج وأقمنا في باب شريف في جدة حيث عمل والدي بائعاً متجولاً يبيع الكيك.
وفي جدة دخلت مدرسة «العزيزية» وهي مدرسة أهلية، كانت بعيدة عنا، ثم أخدني أبي إلى مدرسة ثانية اسمها «الفلاح» درست فيها سنة ونصف السنة.
كانت شوارع جدة ترابية ما زلت أذكرها في تلك الأيام (1957 -1958م) كان الناس بدواً... كنت أدرس في الصف الثالث الابتدائي وأثناء إقامتي في السعودية أديت فريضة الحج مرتين وكان عمري 11 سنة.
في جدة لم أشعر بالغربة، مثلها مثل عدن، فهي مدينة ساحلية وتعتبر امتداداً للسواحل التهامية كما أن جدة تأثرت بثقافة مدينة زبيد، ولم يكن فيها في تلك الفترة تشدد ديني، رغم تواجد «المطاوعة».

المرحلة الثانية من محطة عدن:
بعد عودتي مع والدي من السعودية إلى عدن، درست في المعهد العلمي الإسلامي، وكان أشهر معهد في عدن، أسسه العلامة الشيخ محمد سالم البيحاني، حيث كانت المناهج فيه عامة، ودرس فيه الكثير من الرواد... كان ذلك في العام 1960. ومن بعدها طلب الإمام أحمد يحيى حميد الدين رفض وجودهم في عدن وطلب ترحيلهم، فرحلوهم من عدن...
بدأت بالعمل في عدن وكنت أبيع الصحف والجرائد... كل يوم بعد العصر وأنا طالب في الصف الأول الإعدادي. وكان والدي قد عاد للعمل في السعودية، وأنا ظللت عند الحاج فارع. وكان أبي أيضا يصرف علي وأنا عند الحاج فارع.
أثناء بيعي للصحف كنت أقرؤها وكانت قراءتي لها تفيدني ثقافياً. كما كنت أحب جمع طوابع البريد وتبادلها وبيعها، وكانت تحمل ذكريات. كما كنت أقرأ كتباً خارج الكتب المدرسية. كان المدرسون في المدرسة وخاصة المروني يقولون لنا: ادفعوا لنا نصف شلن ونحن نشتري لكم كتبا خارج المنهج المدرسي. وتأثرت بها كثيراً وأول كتاب قرأته كان في مكتبة في شارع الملكة أروى حيث كنت أذهب اليها أطلع على عناوين الكتب، وكان أول كتاب أقرؤه هو كتاب «الأجنحة المتكسرة» لـ جبران خليل جبران، ثم رواية «اللص والكلاب» لـ نجيب محفوظ.
خلال هذه الفترة بدأ يتشكل لدي الوعي الثقافي والسياسي، ففي عام 1960م جاءت قوات عبدالناصر وبدأنا بالتأثر...
وفي هذه المرحلة كان للسينما دور، فقد لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الفني والسياسي. وفي وقتها كانوا يمنعوننا من دخول السينما ويقولون لنا إنها حرام.
في أيام شهر رمضان كان سعر التذكرة أرخص فكنت أخلّص عملي في مقهاية فارع بدري بسرعة بسرعة، ثم أقول لهم: سوف أذهب لأصلي الوتر والتراويح، فأذهب إلى السينما ـ سينما «الأهلية» أو سينما «مستر حمود هريكه»، أشوف فيلم... إلى الساعة العاشرة مساء، ثم أعود بسرعة إلى مسجد البيحاني «العسقلاني» وأحضر حلقة البيحاني للقرآن، وكانوا يعطونني اثنين شلن كل ليلة.
في العام 1961م أحببت أن أستقل بنفسي وخرجت من عند الحاج فارع وكنت أبيع الصحف في الإجازة، حيث تأثرت بأفكار الاشتراكيين التي تزامنت مع ظهور عبدالناصر، وعندما لم أجد مكاناً أنام فيه رحت أنام في زريبة البقر حق الحاج فارع في «القطيع» بكريتر.. ثم جاء الحاج فارع وأخذني واشترى لي ثياباً جديدة وعدت إلى المقهاية وقال لي: لا تضيع نفسك... وفي تلك الفترة لم أذهب إلى سينما «ريجل» في «خور مكسر» غير مرتين لأنها كانت بعيدة، وتأثرت بأفلام فريد شوقي وهدى سلطان ومحمود المليجي وخاصة فيلم «رصيف نمرة خمسة».
في تلك الفترة أبي كان يدفع لي فلوس المدرسة ولكن البيحاني كان يخفض النصف ويساعد أبي على تعليمي لأن أبي كان يحضر حلقات البيحاني.
في العام 1962م قامت ثورة 26 سبتمبر وأنا كنت في عدن فكانت مسألة الثورة تلعب دوراً، ومن هنا جاء الحنين إلى الشمال وعملنا هناك مظاهرة... 
وفي العام 1963م عدت إلى القرية وبعدها إلى تعز ثم عملت عند شخص من القرية في مطعم في باب موسى ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة عشتها في تعز.

محطة تعز.
وصلت تعز في بداية العام 1963م... سجلت في القسم الداخلي بدار «الناصر»...
درست في مدرسة الثورة الابتدائية (الأحمدية سابقاً) في البداية عملوا لي اختبار قبول، عمله الأستاذ محمد النعامي لتحديد المستوى، فقرروا أني أدرس في الصف الثالث الإعدادي، ومع وصول البعثة المصرية بعد دراسة ثلاثة أشهر تم امتحاني للشهادة الأعدادية وانتقلت للمرحلة الثانوية وكانت الدراسة جادة، وفي بداية وجود المدرسين المصريين درسونا فترتين وظللت في تعز ثلاث سنوات...
في العام 1963 والعام 1964م دخلت حركة القوميين العرب، حيث كان توجهنا قومياً «ناصرياً».
كان للبعثة القومية أثر في نشر المبادئ القومية بين الطلبة. وبعد سنوات الدراسة ونشاط الحركة الطلابية كان رئيس الحركة الطلابية 65 و66 عمر عبدالصمد اليافعي، وأنا كنت أمين عام اتحاد الطلبة...
كان دور الحركة نشطاً جداً، وقد تمثل هذا النشاط بالمسيرات والمنشورات، وقد لعبنا دوراً كبيراً في توزيع نشرة الجبهة القومية التي كانت تصدر في تعز، كانت تعز حينها أشبه بخلية النحل في النشاط السياسي والاجتماعي والثوري ضد المستعمر، وكانت ثورة الشعب اليمني بكامله، وكانت حركة القوميين العرب متصدرة العمل القومي والنضالي ضد المستعمر.
وفي العام 1965م كتبت أول محاولة قصصية لي بعنوان «الوردة الذابلة» ونشرت في صحيفة "الجمهورية"... تلتها محاولات لكن لم تكن مكتملة.
كنا أول دفعة ثانوية في شمال اليمن، وقد امتحنا للشهادة الثانوية في مدرسة عبدالناصر في صنعاء كما كانت أول بعثة إلى مصر بعد الثورة...

محطة القاهرة
وصلنا القاهرة في العام 1966م وكنت ضمن بعثة الوافدين التي منحتها الحكومة المصرية. سافرت عبر ميناء الحديدة مع الجنود المصريين العائدين ووصلنا إلى ميناء «الأدبية» قرب قناة السويس، ومن ثم ركبنا باصات إلى القاهرة.
درست في كلية الآدب قسم صحافة، كانت تلك الفترة عز الفترة الناصرية، وأيضا في الستينيات أول ما وصلنا القاهرة كان المسرح في أوج نشاطه، والنتاج الفني والشعري...
وفي القاهرة لم أهتم بالعمل السياسي، مع أنه كان لي زميل مصري وتأثرت به كثيراً... كان أبوه من مؤسسي حركة التحرر الوطني في القاهرة... كان يعرف فنانين ومسرحيين، وكانوا يدخلوننا إلى المسرح القومي في البلكون آخر مكان، ومن المسرحيات التي حضرتها مسرحية «في دائرة الطباشير القوقازية» لـ بريخت... ومسرحية «الإنسان الطيب». وكانت القاهرة في تلك الفترة تضج بالحراك الثقافي، وكنت أقرأ كل ما يصل إلى يدي من روايات وشعر، وتأثرت بالبياتي واجتمعت معه مرة في قهوة «الباز» حضرت له مرة أو مرتين وتأثرت به كثيراً، وتعرفت على الشاعر فؤاد الحدد شاعر العامية وسيد حجاب ورحت أزوره... البياتي كان مسيطرا عليّ سيطرة كاملة، وقد قرأت أعماله ومعي دواوين له في القرية أحضرتها معي من القاهرة، والكثير من الشعراء مثل أدونيس والمصريين، وممن تأثرت بهم محمود السعدني في صحيفة "صباح الخير". تأثرت في القاهرة بصحيفتين تأثراً أدبياً وثقافياً وكان توجههما يسارياً، هما «روز اليوسف» و«صباح الخير»، وكنت أقرا لليسارية لويس كريس وموسى صبري في صباح الخير.
تأثرت بأمل دنقل بعد البياتي وكان معه ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة». صلاح عبدالصبور تأثرت بمسرحياته الشعرية مثل «الحلاج» وغيرها.
زكي نجيب محمود كان يمثل التيار المحافظ وعبدالرحمن بدوي المترجم الذي ترجم عددا من الكتب اليسارية والفلسفية. وفي العام 1969م تأثرت بالروائي صنع الله إبراهيم وأثرت فيَّ روايته الأولى «تلك الرائحة».
لم أحاول في تلك الفترة أن أكتب في الصحف المصرية، لكني كنت في بعض كتب الدواوين التي كنت أقرؤها أكتب معارضة لقصائد تلك الدواوين بجوار القصائد، كانت تلك فترة بداية تكوين، وكنت أقول يجب أن يكون لي أسلوب خاص بي.
وفي تلك الفترة كان تأثير النكسة علينا تأثيراً رهيباً في العام 1967م إلى حد أننا في الجامعة حاولنا أن نتجند مع المقاومة الشعبية... وفي المجال السياسي تأثرت بالكاتب لطفي الخولي في مجلة «الطليعة» وهي جريدة تصدر مع "الأهرام" وكانت تصل إلى اليمن أيضا.
وتأثرت في المجال الصحفي بالصحفي المصري أمين رضوان، وقد زار اليمن وعاش فيها بداية السبعينيات... كان يكتب في صحيفة "الجمهورية"...
أثر فينا الوعي الفني والسينمائي تأثيراً كبيراً حيث كانت السينما والمسرح والآدب في تلك الفترة في أوج تألقها...
كنت أقرأ أيضاً مجلة "المجلة" ومجلة "الآداب" اللبنانية التي تصل إلى القاهرة. كانت قراءتي يسارية، كنت أقرأ لوركا وبابلو نيرودا وناظم حكمت والذين أثروا فيّ كثيراً، وتأثرت بفيلم "زوربا" كثيراً، وتأثرت بشخصية زوربا في الفيلم.
القاهرة لعبت دوراً كبيراً وأثرت تأثيراً كبيراً عليّ، لم أكن مخططاً لدراسة الصحافة في القاهرة ولكن الزملاء قالوا ندرس صحافة فدرسنا، ربما كان ذلك نتيجة تأثري بقراءة الصحف في عدن.

محطة صنعاء
عدت في نهاية 1970م من القاهرة ووصلت صنعاء... ثم رحت عدن، ولم يعجبني الجو هناك، وزرت فيها قبر أبي والحاج فارع، ثم عدت إلى صنعاء... وتم قبولي في الخارجية مع بعض الزملاء... ثم عينت سكرتيراً ثالثاً. كل الدفعات قبلت واشتغلت في الدائرة السياسية قسم العلاقات العامة، وكنت أخرج لهم نشرة شهرية اسمها «الدبلوماسي» ننشر فيها أخبار الداخل وتوزَّع في الحقيبة الخارجية.
وذات مرة عند مروري من ميدان التحرير كان هناك تجمع لإعدام شخص ولم يعدموه وأعادوه إلى سجن الرادع، وفي اليوم الثاني مررت من نفس المكان حيث تم إعدام نفس الشخص فتأثرت بذلك وكتبت قصة سميتها «حفلة إعدام» في نهاية سنة 1970م وأعطيتها لصديقي محمود جمال رئيس تحرير صحيفة "الثورة"، وقلت له: هل ممكن تنشر؟ فقال: نعم. ونشرت في «الثورة» نهاية 1970م.
ظللت أعمل في الخارجية وفي يوم لقيت عبدالله حمران وقال لي إذا أردت أن تسافر إلى الخارج تعال إلى وزارة الإعلام ونحن نسفرك ثم ظللت في الخارجية حتى بداية العام 1972م وبعدها انتقلت إلى وزارة الإعلام لمدة ثلاثة أشهر تقريبا ثم عينت رئيس تحرير صحيفة «الثورة» في 1972م، لكني رفضت أن يكتب اسمي رئيس تحرير الصحيفة وقتها قلت لـمحمد الزرقة وعلي العمراني وعبدالله الشرفي أن تكون هناك هيئة تحرير للصحيفة وأيضا كنت أعلم أنهم سوف يبعدونني بسرعة.
وبعد حوالى ستة أشهر، وكان عبدالله الوصابي نائب وزير الإعلام وكنت أحياناً أسرّّب بعض المقالات ضد الوضع، وفي ذات ليلة جاء الأستاذ أحمد دهمش والأستاذ عبدالله الوصابي يفتشان المواد، ويومها كتبت مقالاً سياسياً يحمل طابعاً أدبياً عن « الحيَّات والحنشان». أخذ الأستاذ دهمش بعض المواد والأستاذ عبدالله الوصابي بعض المواد وهذا المقال، قلت للعمراني أن يقرأه ويشوف وهل فيه شيء، فقال لا يوجد فيه شيء، وقال العمراني لدهمش «خلاص هذا يمر، لا يوجد فيه شيء... »، وبعد نشر هذا المقال جاء الأستاذ أحمد دهمش وقال «لماذا كتبت هذا الكلام؟! هيا خلاص قد غيَّروك وعيَّنوا شخصاً ثانياً رئيساً للتحرير».
كتبت نثرية في مقتل إبراهيم الحمدي سميتها «مرثية إلى عيون الشعب»...
أذكر في السبعينيات كنت عضوا في لجنة الرقابة على الأفلام التي كانت تعرض في دور السينما... كانت السينما لها حضور، وكنا نختار الأفلام الجميلة في وقتها...
أذكر في العام 1973م ذهبت إلى «سجن القلعة» لمدة ستة أشهر بدأت أكتب «لحظة يا زمن» في 1975م وقبلها كتبت عدة أعمدة بداية من «لقطة من الزاوية» و«الناس والأشياء» و«لقطة من عين الكاميرا» واستمررت حتى سنة 1975م ثم كتبت «لحظة يا زمن» بعد عودتي من القرية بعد زواجي، وبعدها استمررت بكتابة «لحظة يا زمن» حتى العام 2016م...


التعليقات