في الوقت الذي تُعد فيه الشراكة بين القطاعين العام والخاص رافعة اقتصادية ضرورية لتجاوز تحديات التنمية، ما تزال البيئة التشريعية والتنظيمية في اليمن عاجزة عن مواكبة هذا التوجه، رغم تعدد المبادرات وتراكم التوصيات الدستورية والقانونية منذ أكثر من عقد.
وتكمن الإشكالية في غياب قانون مُلزم ينظم هذه الشراكة، ويشكل المرجعية القانونية لتنفيذ المشروعات المشتركة التي يتولاها القطاع الخاص في العادة، إلى جانب تشتت النصوص ذات الصلة بين قوانين الاستثمار والخصخصة والدستور، ما أدى إلى إرباك العلاقة بين الطرفين، وإضاعة فرص استثمارية حيوية، في بلد يعاني من فجوة تنموية خانقة واحتياجات متزايدة للبنية التحتية والخدمات الأساسية.
ويقول رجل الأعمال وعضو فريق الإصلاحات الاقتصادية عبد الإله سلام: "يمتلك القطاع الخاص خبرات واسعة، ورؤوس أموال متاحة، لا سيما من المغتربين اليمنيين الراغبين في الاستثمار داخل البلاد، لكن استمرار غياب القانون، وتضارب المرجعيات، وغياب آليات الرقابة والحوكمة، ما يزال يشكل عائقًا رئيسيًا أمام أي تحرك جاد نحو شراكة استراتيجية حقيقية".
ويدعو سلام إلى ضرورة تفعيل دور القضاء التجاري، وتسهيل إجراءات فض النزاعات بسرعة وعدالة، وحماية المستثمرين من أي ابتزاز أو نفوذ غير قانوني، باعتبار أن بيئة قانونية مستقرة وشفافة هي حجر الأساس لأي نمو اقتصادي حقيقي.
•مسودة قانون معلقة منذ سنوات
بدأت الخطوات نحو قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص في اليمن عام 2008، حيث انطلقت أولى الجهود الرسمية لإعداد إطار قانوني ينظم العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص تحت مسمى "قانون الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص".
وفي عام 2010 ظهرت أول مسودة رسمية للقانون، قبل أن يُعاد صياغتها بشكل موسع عام 2013 من قبل لجنة فنية متخصصة شارك فيها ممثلون عن القطاع الخاص.
ورُفعت المسودة المعدلة إلى مجلس الوزراء، حيث أُقرت مبدئيًا في مارس/آذار 2014، ثم أُحيلت إلى مجلس النواب، الذي بدوره أحالها إلى اللجنة المختصة لمراجعتها.
لكن اندلاع الحرب في 2015 أدى إلى تجميد المشروع وتعليق كافة الإجراءات المتعلقة به، ولم يُحرز أي تقدم يُذكر حتى اليوم.
هذا الجمود، بحسب خبراء اقتصاديين، يعكس غياب الإرادة السياسية، ويُفاقم مناخ عدم الثقة الذي يحيط بالاستثمار في اليمن، في ظل غياب إطار قانوني منظم يضمن مشاركة القطاع الخاص في مشاريع البنية التحتية بنظام (PPP) أي الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ويقول الدكتور هشام الصرمي، الباحث في الشأن الاقتصادي، إن البيئة التشريعية الحالية تفتقر إلى الأطر القانونية الواضحة والمُلزمة التي تضمن حقوق الأطراف في أي عقد شراكة.
ويضيف، "ما يزال الإطار القانوني للشراكة غامضًا، والتنظيم المؤسسي غير مكتمل، وحتى المسودات التي تم إعدادها في وقت سابق لم تُفعّل، مما يثير قلقًا مشروعًا لدى المستثمرين المحليين والدوليين، خصوصًا في بيئة غير مستقرة تتداخل فيها السلطات وتغيب عنها الضمانات التنفيذية".
•بيئة قانونية ضعيفة
يؤكد المحامي محمد علوان أن الدستور اليمني يتضمن إشارات إيجابية تدعم مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لا سيما في المادتين السابعة والعاشرة، اللتين تنصان على حرية النشاط الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتشجيع الاستثمار بما يخدم مصلحة الفرد والمجتمع.
لكن هذه النصوص، كما يوضح علوان، تبقى في إطار المبادئ العامة، ولم تُترجم إلى تشريعات تفصيلية قابلة للتنفيذ، في ظل غياب قانون واضح ينظم العلاقة بين الطرفين ويحدّد مسؤوليات كل منهما.
وأشار علوان إلى أن غياب الأطر القانونية المنظمة، وتداخل الصلاحيات بين الجهات الحكومية، خلق بيئة قانونية متضاربة ومربكة، لا توفر الثقة ولا الحماية اللازمة للمستثمرين، وتُضعف فرص إقامة شراكات مؤسسية فعالة.
•تحديات الحوكمة والقدرات المؤسسية
يواجه مسار الشراكة في اليمن مجموعة من التحديات المركبة، أبرزها ضعف الشفافية والحوكمة في المؤسسات الحكومية، وغياب آليات فعالة للمساءلة والمراقبة، إلى جانب البيروقراطية وتفشي الفساد، وهي عوامل جعلت من إجراءات التعاقد معقدة، وغالبًا ما تخضع للاعتبارات السياسية أو الولاءات والمحسوبيات.
وتعاني المؤسسات الحكومية من عجز هيكلي في تصميم العقود، وتحليل المخاطر، وإدارة المشاريع المشتركة، نتيجة تآكل القدرات الفنية والإدارية، وانهيار الهياكل المؤسسية، ولا توجد جهة مستقلة قادرة على تنظيم العلاقة بين الطرفين، ولا جهاز تنفيذي متخصص في عقود الشراكة، ما يجعل المشاريع عرضة للفشل منذ لحظة التفاوض الأولى.
كما تمثل تسوية النزاعات أحد الهواجس الكبرى للمستثمرين في اليمن، إذ لا توجد آلية واضحة لتطبيق التحكيم، سواء المحلي أو الدولي، في ظل ضعف استقلالية القضاء وتضارب السلطات، كما أن النظام القضائي الحالي غير قادر على حسم النزاعات التجارية وفق معايير عادلة وسريعة، ما يجعل المخاطرة القانونية عالية.
•القطاع الخاص في موقع المجهول
رغم أن القطاع الخاص في اليمن أثبت مرونة عالية خلال فترة الحرب الراهنة، وساهم في توفير السلع والخدمات، إلا أنه يظل لاعبًا غير محمي تشريعيًا. فحتى اللحظة، لم يُمنح هذا القطاع موقعًا حقيقيًا في منظومة اتخاذ القرار، كما لم تُوفر له بيئة عمل متوازنة تسمح له بتقديم دوره التنموي بفاعلية.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن أغلب المشاريع المنفذة خلال فترة الحرب كانت بتمويل أو إدارة من القطاع الخاص، ومع ذلك، بقي دوره محصورًا في إطار رد الفعل، دون تمكين قانوني أو مؤسسي يؤهله لأن يكون شريكًا استراتيجيًا للدولة في التنمية.
ويعبر ممثلو القطاع الخاص عن استعدادهم الكامل للدخول في شراكات استراتيجية مع الحكومة، شريطة توافر بيئة تشريعية وإدارية مستقرة تضمن حقوق جميع الأطراف، وتوفر إطارًا قانونيًا نزيهًا يعزز الثقة المتبادلة ويضمن التوزيع العادل للمخاطر والعوائد.
ويؤكد رجل الأعمال عبد الإله سلام أن القطاع الخاص اليمني مستعد للاضطلاع بدور أكبر في تنفيذ مشروعات استراتيجية، خصوصًا في قطاعات البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والطاقة، والكثير من المجالات الأخرى.
كما شدد سلام على أن الشراكة الفاعلة لا يمكن أن تتحقق دون وجود إطار قانوني وتشريعي واضح، يضمن الشفافية، ويعزز من تفعيل الجوانب التشريعية والقانونية، ويكفل الحماية القانونية لجميع الشركاء.
ويضيف، "نحن بحاجة ملحّة إلى تحديث القوانين واللوائح بما يواكب المتغيرات الاقتصادية، ويشجع رؤوس الأموال المحلية والخارجية على الدخول في مشاريع تنموية مستدامة".
ووفق تحليلات محلية ودولية، فإن تجاهل هذا الجانب يفتح الباب أمام تعاقدات هشة، قد تتكرر فيها اختلالات التنفيذ أو النزاعات، وهو ما يؤكد ضرورة استحداث هيئة وطنية عليا للشراكة، تضم ممثلين عن الحكومة المركزية والمحافظات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وتتمتع بسلطة إشرافية وتخطيطية على المشاريع المشتركة.
كما تشير هذه التحليلات إلى أهمية ربط الحوافز الضريبية والعقدية بمعايير الحوكمة، وتفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بما يضمن تخطيطًا وتنفيذًا متكاملًا بين كافة الجهات، وتحويل القطاع الخاص من مزود خدمات إلى شريك في القرار والتنفيذ.
ويذهب المحامي محمد علوان إلى أن مخرجات الحوار الوطني نصت بوضوح على ضرورة إصدار قانون خاص بالشراكة، وإنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي للإشراف على العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، غير أن هذه التوصيات لم تجد طريقها إلى التطبيق حتى اليوم، في ظل الانقسام المؤسسي وتعطل العملية التشريعية، ما يُبقي هذا الملف عالقًا في وقت تزداد فيه الحاجة إلى أدوات تمويلية بديلة لتلبية احتياجات البلاد التنموية والخدمية.
•خطوات مطلوبة لإصلاح المسار
يؤكد خبراء القانون والاقتصاد أن الطريق نحو شراكة حقيقية بين القطاعين يبدأ من إقرار قانون متكامل ونافذ، يحدد طبيعة العقود، ويضمن الحقوق، ويضع معايير الشفافية والمساءلة، مع إنشاء هيئة عليا للإشراف على الشراكات، قادرة على قيادة وتنظيم المشاريع.
كما أن إصلاح البيئة القضائية، وتفعيل أدوات التحكيم، وإنشاء سجل عقاري موثوق، وتقديم ضمانات مالية حكومية للمشاريع الكبرى، تمثل خطوات ضرورية لبناء الثقة بين الدولة والقطاع الخاص. ويُضاف إلى ذلك تفعيل مخرجات الحوار الوطني، خصوصًا المتعلقة بالحوكمة الاقتصادية والمشاركة المجتمعية، كمدخل لخلق بيئة شراكة عادلة ومستقرة.
والقصور التشريعي في تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص في اليمن لا يقتصر على غياب القانون، بل يمتد إلى غياب الإرادة، وتفكك الهياكل المؤسسية، وضعف المساءلة، وضبابية المرجعيات القانونية.
ولعل الاستثمار في إصلاح هذا الجانب بات ضرورة وطنية عاجلة، ليس فقط لإنعاش الاقتصاد، بل لاستعادة الثقة في الدولة كمظلة للتنمية، وقادرة على قيادة المرحلة الراهنة برؤية تشاركية عادلة ومستدامة.