تقرير: الشاي العدني.. عبق المدينة وصوتها الدافئ..
يمن فيوتشر - محمد جسار الإثنين, 09 يونيو, 2025 - 07:26 مساءً
تقرير: الشاي العدني.. عبق المدينة وصوتها الدافئ..

في عدن، لا يُقدّم الشاي فحسب إنما يُحتفى به كأنه ضيف كريم ويُرتشف كأنه ذاكرة.

بين الأزقة القديمة والمقاهي العريقة، يسكن الشاي العدني، أو كما يُسمى شعبيًا "الشاي العيدروسي"، في تفاصيل الحياة اليومية للمدينة، ليكون أكثر من مشروب يروي العطش وإنما طقس اجتماعي لا يكتمل النهار إلا به، وصوت دافئ يجمع بين الجيران والأصدقاء، يحضر في الأعراس والمآتم، في اللقاءات العابرة والجلسات الطويلة، ويُصبح مع الوقت مرآة لهوية المدينة وسرًّا من أسرارها.

ويُحكى أن هذا الشاي جاء إلى عدن من مرافئ بعيدة، من السفن التي حملت البهارات والقصص، من تجار هنود وصينيين رسوا على الميناء في القرن التاسع عشر، فجلبوا معهم أوراق الشاي وعادات الشراب ورائحة الهيل والزنجبيل، ليتلقفها العدنيون بشغف ويصوغوا منها مذاقهم الخاص، وليعيدوا تشكيل هذا المشروب بما يناسب مذاقهم وذوقهم ومزاجهم وروحهم.

ومع عودة المهاجرين العدنيين من بلدان شرق آسيا، وخصوصًا من إندونيسيا، كان الشاي العيدروسي قد وجد مكانه الدائم في المجالس، وأصبح تقليدًا راسخًا في البيوت والمقاهي، نكهة تتجاوز حدود الطعم لتغدو لغة أهلية دافئة.

من هو عيدروس؟
ياسر سكران، صاحب "مقهى السكران" في مديرية صيرة (كريتر)، يروي لـ"يمن فيوتشر" طرفة من التاريخ الشعبي. يقول إن ملعب الهوكي الشهير كان يشهد مباريات حامية بين فرق الأحياء، وعندما يفوز أحدها تُستكمل الحكاية في مقهاه، حيث تُناقش المباراة وتُحلل الأهداف ويحظى المنتصرون والمهزومون بالشاي على حد سواء، ومع تكرار فوز فريق العيدروس، التصق اسمه بالشاي الذي كان يُقدّم في كل مناسبة، ليصبح "الشاي العيدروسي".
والعيدروس هنا ليس مجرد فريق إنما اسم عائلة عريقة ترجع إلى الشيخ أبو بكر بن عبد الله العيدروس، الصوفي الحضرمي الذي استقر في عدن وأشرف على بناء مسجد حمل اسمه، فصار الاسم والتاريخ والضيافة يجتمعون كلهم في كوب شاي.

أما سر هذا الشاي فلا يكمن فقط في الاسم بل في طريقة التحضير التي تُعامل كطقس من طقوس الحياة، حيث تُغلى أوراق الشاي مع الحليب والسكر والبهارات، ويعلو البخار حاملًا روائح الهيل والقرنفل والزنجبيل، وعبق الذكريات.
ويختلف غلي الشاي من بيت إلى بيت ومن مقهى إلى آخر، فبعضهم يضيف الحليب الطازج، وآخرون يفضلون الحليب المكثف، فيما يُعزز السكر والبهارات حسب المزاج، لكن النكهة تبقى هي النكهة، والشاي يظل هو الشاي، وعدن تبقى وعدها الذي لا يخيب.

في زوايا المقاهي، حيث يتحلّق الرجال حول طاولات الزمن، تُختصر جلسات التحليل الرياضي المحلي والدولي في عبارتين لا تغيبان عن أجواء المقهاية: "زَبَطُه - رَدَعُه"، إشارة إلى تمرير الكرة بالرجل أو الرأس، وهي تعبيرات عدنية خالصة تُقال بشغف لا يفتر، وتُضاف إلى ذاكرة التحليل اليومي الذي لا يكتمل دون الشاي.

 

حنين!
وكما يقول ياسر، كان يعمل يوميًا بأكثر من 35 "كتلي شاهي"، أي أبريق، أما اليوم، ومع انتشار الكافتيريات وتغير الإيقاع العدني، لم يعدْ يعدّ إلا ثمانية فقط، لكنه لا يزال يحتفظ بالحب والإخلاص ذاتهما.

أسامة مجدي، معلم لغة عربية في إحدى ثانويات عدن، وأحد روّاد المقاهي، يصف الشاي العدني بطقس يومي لا غنى عنه، مشيرًا إلى أنه يُقدّم كأول علامة على الكرم وكلمة ترحيب لا تُقال إنما تُشرب. 
في المقاهي الشعبية هو المشروب الأهم يُقدَّم للجميع دون تمييز، ويصبح جسرًا للحوار وتبادل الحديث والقصص، وفي المناسبات الاجتماعية لا يُمكن أن يُفتتح اللقاء دونه، فهو بداية اللقاء وختامه ودفء اللحظة وسند الذكرى.

ويضيف أسامة أن الشاي العدني احتفظ بمكانته رغم كل التغيرات التي شهدتها المدينة، فقد تغيّرت الوجوه وتبدلت الأزمنة لكنه ظل هو النبض المشترك بين الأجيال، رمزًا للضيافة وعلامة على التآلف والمحبة التي تميز العدنيين، "كل رشفة منه تُعيدك إلى زوايا من الزمن وتستحضر قصص الأجداد وتنسج علاقة حميمة بينك وبين مدينة كانت دومًا سيدة البحر والحنين."

ورغم رمزيته الاجتماعية، فإن للشاي العدني دورًا اقتصاديًا ملموسًا، فالمقاهي والمطاعم تعتمده كمكون رئيس في قائمتها، ووفّرت صناعته وتوزيعه، ولا تزال توفّر، فرص عمل لآلاف السكان، كما أن الطلب اليومي المتكرر عليه يجعله حجر أساس في حياة العاملين بالمجال.
هناك مقاهٍ لا تُقدّم سواه مثل مقهاية "المليط" في التواهي ومقهاية "الشجرة" في الشيخ عثمان، لكن مع طفرة المقاهي الجديدة وبائعي الشاي "السفري"، بدأ رواد المقاهي القديمة يقلّون، وباتت صورة "مدمني الشاي" الذين كانوا يلازمون طاولاتهم طوال اليوم، تختفي ببطء.

 

المُلَبّن!
ولا تقتصر مكانة الشاي العدني على رمزيته وطقوسه فقط، إذ يحمل في طيّاته فوائد كثيرة، يساعد على الهضم بفضل ما يحتويه من بهارات كالهيل والزنجبيل ويُنشط الدورة الدموية بفعل الكافيين ويقوي المناعة لاحتوائه على مضادات الأكسدة، ما يجعله أكثر من مشروب، إنه وصفة صحية شعبية يتوارثها الناس دون روشتة.

كما يحمل طابع الهوية وروح المدينة، ويكشف اسمه تباين الدلالة بين اللهجة وخارجها؛ فإذ يُعرف في عدن بـ"الشاهي المُلَبَّن" بالهاء، ومعنى مُلَبَّن "ممزوج بالحليب"، يشاع في بقية اليمن وخارجها باسم "الشاي العدني"، بما يعكس انتقال العادة وتبدّل التسمية تبعًا لاختلاف السياق، دون أن تتأثر نكهته أو يتغير طقسه المتوارث.
 
من ناحية اقتصادية، كان سعر كوب الشاي في المقاهي الشعبية قبل الحرب لا يتجاوز 50 ريالًا، بينما كان الدولار يعادل 215 ريالًا، أي ما يقارب ربع دولار، ليصل مع مرور سنوات النزاع إلى 400 ريال، في وقت تجاوز فيه الدولار 2500، ما أدى إلى تراجع القيمة الحقيقية للكوب إلى نحو 16٪، مقابل تضاعف كلفته بالعملة المحلية. 
ورغم التفاوت، حافظ "الشاهي الملبَّن" على حضوره اليومي، بوصفه طقسًا متجذرًا، لا يزال الناس يتمسكون به كجزء من تفاصيلهم الثابتة وسط واقع كثير التبدّل.

 

قبل أكثر من قرن!
تاريخ المقاهي في عدن طويل، يبدأ من "الزعفران" عام 1910، مرورًا بمقهاية "عبدان" في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم مقهى "زكو" التي أسسها زكريا إلياس في الخمسينيات وأصبحت تُعرف باسمه، وصولًا إلى "سكران" التي فتحت أبوابها عام 1971، كل مقهى منها يحكي قصة، كل طاولة شهدت حوارًا، وكل إبريق حمل سرًّا من أسرار المدينة.

العسكري المتقاعد حلمي بارحمة يقول لـ"يمن فيوتشر" إن الشاي العدني تجاوز حدود عدن، وبات يُقدّم في دول الخليج وبعض الدول العربية، دلالة على نكهته الخاصة التي تخطف قلوب محبي الشاي من كل مكان، فصار سفيرًا صامتًا ينقل شيئًا من عدن إلى العالم، دون حاجة إلى جواز سفر.

ويمكن القول إن الشاي العدني ليس مشروبًا فحسب إنما لحظة من تاريخ المدينة تُسكب في كوب، ورمز ثقافي يتجاوز الجغرافيا والذوق، وهو الصديق الذي يجالسنا في الصباح والمساء، في الفرح والحزن، الوحدة والجماعة، ويظل، كما كان دومًا، أحد أجمل ملامح عدن وأكثرها دفئًا.


التعليقات