يرى خبراء إيطاليون أن هناك أملاً في إعادة تنشيط حركة العبور عبر قناة السويس، وهو ما يشكّل مكسباً حيوياً لمصر في لحظة تحاول فيها تثبيت مسار التعافي الاقتصادي وتحسين مواردها من النقد الأجنبي. لكن هذا المناخ الإيجابي الظاهري، وفقاً لهؤلاء، لا يلغي هشاشة المشهد الإقليمي، إذ لا تزال جذور الأزمة اليمنية وارتباطاتها الإقليمية قائمة، ما يجعل أي تهدئة حالية أقرب إلى فرصة مؤقتة منها إلى تحول استراتيجي راسخ. وبين آفاق الاستفادة الاقتصادية لمصر وإمكانات تعزيز التعاون الإقليمي في أمن البحر الأحمر، تقف المنطقة أمام مفترق طرق يتطلب توافقات سياسية واستثمارات طويلة المدى لتحويل الهدوء النسبي إلى استقرار مستدام.
وقال الخبير السياسي الإيطالي، جوزيبى دينتيتشه، إن "المرحلة الأخيرة من خفض التصعيد في البحر الأحمر عقب وقف هجمات الحوثيين تفتح نافذة مهمة أمام استقرار خطوط الملاحة البحرية وإمكان استئناف الحركة التجارية عبر قناة السويس". وأضاف دينتيتشه الذي يعمل في مرصد البحر المتوسط، التابع لمعهد القديس بيوس الخامس للدراسات السياسية لـ"العربي الجديد"، أنه "بعد أشهر من اضطرار شركات الشحن لتحويل مساراتها نحو رأس الرجاء الصالح، فإن تراجع التهديد المسلح قد يسمح بإعادة توجيه التدفقات البحرية نحو قناة السويس التي تعد المسار الأقصر والأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية".
وذكر أن "ما سبق يعني، بالنسبة لمصر، استعادة إيرادات حيوية في مرحلة تبدو فيها الأزمة الاقتصادية في البلاد في طريقها إلى الترسخ، ما يجعل قناة السويس ركيزة مالية لا بديل عنها وعنصراً أساسياً في مسار الاستقرار المصري". وقال رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع، الاثنين الماضي، إن إيرادات قناة السويس سجلت تعافياً جزئياً في الفترة من يوليو/تموز الماضي حتى أوائل ديسمبر/كانون الأول الجاري، لتبلغ 1.97 مليار دولار، بزيادة 17.5% على أساس سنوي، متوقعاً ارتفاع إيرادات القناة إلى ثمانية مليارات دولار في العام المالي 2026/2027، وإلى 10 مليارات دولار في العام المالي 2027/2028، مع استمرار تعافي حركة الملاحة، في ظل عودة الاستقرار إلى البحر الأحمر.
واعتبر دينتيتشه أن "استئناف حركة السفن ليس فقط خبراً ساراً للاقتصاد المصري: إذ إنه من شأن خفض التصعيد في البحر الأحمر إنعاش الاستثمارات في الأمن البحري وتحديث البنى التحتية الساحلية وتعزيز التعاون الإقليمي"، مشيراً إلى أن " الدول المطلة على البحر الأحمر قد تتاح لها فرصة إطلاق مبادرات مشتركة لحماية مسارات التجارة، وتعزيز قدراتها البحرية، وإنشاء آليات استقرار تشمل لاعبين دوليين ومنظمات متعددة الأطراف. وقد تتحول منطقة البحر الأحمر من ساحة هشّة إلى مختبر للتعاون الاستراتيجي".
واستدرك أنه "على الرغم من سمته الإيجابي، فإن هذا المنظور يتسم بالهشاشة، فوقف الهجمات لا يعني تسوية جذور الصراع بشكل تلقائي. كما أن التوافق السياسي اللازم لبلوغ استقرار مستدام يظل أمراً بالغ الصعوبة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار التفتت الداخلي في اليمن، واستمرار النفوذ الإيراني على الحوثيين، وغياب اتفاق سياسي شامل من شأنه ضمان وقف إطلاق نار مستداماً. كما لا تزال الديناميات الإقليمية معقدة وتعترضها خصومات قد تعيد إشعال الأزمة بإيقاع سريع".
وأعرب الخبير الايطالي عن اعتقاده أنه "حتى لو تمكّنت مصر من استعادة دور محوري بفضل استئناف حركة الملاحة مع انخراط أكبر في الملف اليمني، فإنها ستظل على أية حال معرضة لتوازنات لا تخضع لسيطرتها بالكامل"، مشيراً إلى أن "قدرات التأثير المصرية تتحكم فيها خيارات القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في النزاع، وأي انتكاسة أو تصعيد جديد قد يلقي بظلاله مباشرة على إيراداتها وأمن الطرق البحرية واستقرار الاقتصاد الداخلي".
وخلص إلى أن "وقف الحملة الحوثية يمثل خطوة إيجابية للأمام، إلا أن الطريق نحو الوصول بالبحر الأحمر إلى أوضاع طبيعية حقيقية لا يزال غير مضمون". وختم بقوله: "الفرصة قائمة، لكنها تتطلب تنسيقاً سياسياً واستثمارات استراتيجية ومقاربة متعددة الأطراف من شأنها تحويل هدنة هشة إلى توازن أكثر صلابة واستدامة".
•ممرات بديلة في المنطقة
في السياق، قال مدير المركز الدولي للاستخبارات العالمية في إيطاليا، فرنشيسكو كورّادو فراسكا، إن الهجمات التي شنّها الحوثيون منذ أواخر عام 2023 على السفن المتجهة من وإلى قناة السويس أحدثت اضطراباً غير مسبوق في حركة التجارة البحرية، وأثّرت بشكل مباشر بالملاحة في البحر الأحمر وعلى الدور المحوري لقناة السويس في الاقتصاد المصري والعالمي.
وأوضح في تحليل نشره موقع نوتيتسييه جيوبوليتكيه الإيطالي "Notizie Geopolitiche" بعنوان "مصر وأزمة البحر الأحمر"، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن "جماعة الحوثي، المتحالفة مع إيران، استخدمت تلك الهجمات باعتبارها رداً على الحرب في غزة، في محاولة لزيادة الضغط على القوى الغربية، وإجبارها على التدخل لفرض وقف إطلاق النار".
وتابع فراسكا أن "استهداف السفن دفع شركات الشحن الكبرى، مثل ميرسك وغيرها، إلى تحويل مساراتها حول رأس الرجاء الصالح، ما أطال رحلاتها بين 10 و14 يوماً، وتسبب في انخفاض عبور السفن من قناة السويس بنحو 49% خلال عام واحد". وأشار الخبير الإيطالي إلى أن "هذا التحول رفع تكاليف التأمين والشحن عالمياً، وأثّر في موانئ المتوسط، فيما انخفضت كميات النفط العابرة للقناة من 7.9 إلى 3.9 ملايين برميل يومياً".
ورأى أن الهجمات الحوثية "أعادت إبراز هشاشة القناة أمام الأزمات الجيوسياسية، تماماً كما حدث في أزمة السفينة إيفر غيفن عام 2021، لكنها هذه المرة أزمة ممتدة زادت من كلفة التجارة العالمية، وعمّقت خسائر الدول المعتمدة على الممر الحيوي". ولفت فراسكا إلى أن "المنافسة الإقليمية في البحر الأحمر، خصوصاً من السعودية والإمارات، تُضعف مركزية القناة، حيث تستثمر هذه الدول في ممرات بديلة وموانئ جديدة، أبرزها مشروع طريق التنمية الذي يربط الخليج بتركيا وأوروبا عبر شبكات برية وسككية، ما يخلق مسارات استراتيجية خارج سيطرة مصر".
وأضاف أن "الصين بدورها توسّع نفوذها في المحيط الهندي، مستثمرة في موانئ باكستان وسريلانكا وكينيا وجيبوتي لتأمين خطوط تجارة بديلة لا تمر بالضرورة عبر البحر الأحمر". وشدد فراسكا على أن "تداعيات الأزمة كانت قاسية على الاقتصاد المصري، إذ تراجعت إيرادات قناة السويس بأكثر من 60% عام 2024، بخسائر قدرت بسبعة مليارات دولار، مع انخفاض عدد السفن المارة من 2.068 ألف إلى 877 سفينة في غضون عام واحد". وأشار إلى أن "مدن القناة، خاصة بورسعيد، شهدت تقلصاً في حركة الحاويات بنسبة تصل إلى 40%، فيما أدت الخسائر إلى تفاقم أزمة النقد الأجنبي، وارتفاع كلفة الواردات، وسط تضخم تجاوز 33%".
وأعرب عن اعتقاده بأن "هذه الأزمة تأتي في توقيت بالغ الحساسية، حيث يواجه الاقتصاد المصري ديوناً مرتفعة، وتراجعاً مستمراً في قيمة الجنيه، وضغوطاً متزايدة من صندوق النقد الدولي لتنفيذ إصلاحات صعبة تشمل تحرير سعر الصرف وتوسيع دور القطاع الخاص". ولفت إلى أن "استمرار تراجع إيرادات القناة يهدد الاستقرار الاجتماعي في بلد يعيش ثلث سكانه تحت خط الفقر".
وخلص إلى أن "مصر تعمل على مسارات متوازية لمواجهة تداعيات الأزمة، منها تعزيز قدرات القناة عبر مشروعات توسعة جديدة لرفع قدرة المرور ثنائي الاتجاه، واستكمال أعمال التطوير التي بدأت عام 2015 مع تفريعة قناة السويس الجديدة، إضافة إلى بحث إنشاء قناة ثانية في بعض القطاعات، وهو مشروع يخضع حالياً لدراسة تستمر 16 شهراً تشمل الأثر البيئي والهندسي. كما تعمل القاهرة على دعم وجودها البحري في البحر الأحمر، وتنشيط علاقاتها الدولية لضمان أمن الملاحة".
وختم بقوله إن "مستقبل قناة السويس سيتحدد وفق قدرة مصر على حماية الممر من التهديدات الجيوسياسية، وتنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد المفرط على إيرادات القناة، والحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية. فأمن البحر الأحمر لم يعد قضية ملاحية فحسب، بل أصبح عنصراً جوهرياً في أمن مصر واستقرارها الاقتصادي والسياسي".