ثقافة: عاصمة الأرستقراطية الدينية..مدينة تريم وطقوسها في كتابات المستشرق سرجنت
يمن فيوتشر - خيوط: الجمعة, 30 ديسمبر, 2022 - 12:14 مساءً
ثقافة: عاصمة الأرستقراطية الدينية..مدينة تريم وطقوسها في كتابات المستشرق سرجنت

في عامي 1947م و1953م تمكّنت من جمع ونسخ جملة من الوثائق التي تملكها عائلات في أحياء (حارات، حافات) مدينة تريم، حيث تلقيت تعليقات عليها هناك ثم قمت بدوري بشرحها. وإبان زيارتي الأخيرة لحضرموت في أواخر العام 1964م، تمكّنت أيضًا من جمع معلومات عن مدينة الشحر الساحلية، فاكتشفت أن نفس نمط تنظيم الأحياء سارٍ أيضًا على مدينة بحرية تجارية يشتغل أهلها في صيد السمك والتجارة. ومع أنّ كلتي المدينتين (تريم والشحر) مسورتان، فإنّ اعتماد كلٍّ منهما على الزراعة وصيد السمك على التوالي، قد انعكس على المساحات المهمة المفتوحة داخل سور المدينة، حيث نجدها (المساحات) مزروعة في تريم، في حين أنّها في الشحر متروكة لتجفيف السمك ولوضع الصنابيق والقوارب. 

تهتم وثائق الحارات هذه، بصورة رئيسية، بتسجيل النزاعات داخل كل حي وبين الأحياء، وتسويتها، مع أنّ طبيعة النزاعات ذاتها تكشف عن كثير من أمور الحياة اليومية لهذه الجماعات. إنّ السنوات الكثيرة التي قضيتها في قراءة المؤلفات العربية ولدت يقينًا بأن النزاعات الداخلية للحي أمرٌ شائع في مدن الشرق الأوسط الإسلامية. وعلى الرغم من شحة المعلومات عن الأحياء ذاتها، فإنّه يمكن، حسب اعتقادي، إعادة صياغة الكيفية التي كانت تنظم وتدار بها، وذلك بالاستنتاج من مضمون مثل هذه الوثائق.

تسكن أحياء تريم الطبقتان المنتميتان لأصحاب الحوانيت الصغيرة أو الحرفيون والعاملون في الطين، والبنّاؤون، والفخّارون، والحَرَث. أمّا أهم مجموعة فلعلها الدَّلَل (مفردها دلّال أي سمسار) الذين يعملون على أساس العمولة، وهم يعدون الوسطاء بين القبائل القادمة من الريف للبيع والشراء في المدينة. ويَعُدُّ رجالُ القبائل طبقاتِ المدينة المذكورة أعلاه أدنى منزلة اجتماعية منهم، وهؤلاء هم، حصريًّا، الذين يشكّلون "عيال الحافة".

 

طقوس وتقاليد

إنّ تريم هي العاصمة لتلك الأرستقراطية الدينية الشهيرة، سادة حضرموت، رجال العلم، ولو أنّهم كثيرًا أيضًا يعدون الرأسماليين الذين يمولون زراعة المحاصيل في الريف على أساس المحاصصة. والأرستقراطية الدينية الأقدم، هم المشايخ، ويمثّلها عائلات معينة. وسادة حضرموت، غالبًا، غير مسلحين، ويعملون كوسطاء في النزاعات القبلية. والكثير من عائلات السادة الحضارم "مناصب" (مفردها منصب أو منصوب) أي إنّهم سادة روحيون للأماكن المقدسة التي لا يسري فيها حكم العرف القبلي، ومحظور فيها القتال. والسادة في تريم، مثلهم في ذلك مثل الطبقات الدنيا، يقعون تحت حماية القبائل، مع أنّهم، عمومًا، يحترمونهم، وأحيانًا يخافونهم، كما هو الحال مع المشايخ.

يجب التأكيد على حقيقة أنّ رجال القبائل القاطنين في المدن، بإمكانهم الاستمرار في ذلك لأجيال عدة دون أن يفقدوا صفاتهم القبَلية القتالية، إلّا إذا تركوا حمل السلاح والاشتغال بالحِرَف والمهن المحتقرة (في نظر القبائل)، لأنّ الأحياء، بالطبع، تؤثّر على الحياة اليومية لكل المجموعات الأخرى. 

يتمتع المجتمع بتوازن معين؛ فمن جهة، يخضع الطمع القبلي إلى حدٍّ ما، للخوف من السادة، ومن جهة أخرى، يُحدّ اضطهادهم للطبقات الدنيا بخوفهم من قتل البطة التي تبيض ذهبًا. ففي تريم، وكذا في مدن حضرمية أخرى، تخضع الجماعات القبيلة التي يتزعمها السلاطين لضبط بعلاقة حب - كراهية فيما بينها وبين السادة، مع العلم أنّ هاتين الطبقتين تعتمدان، اقتصاديًّا، على الطبقات الدنيا. 

في المؤلفات التاريخية، نجد إشارة من العصور الوسطى إلى "حارة علي با شريف"، وواضح أنّها حافة خاصة بالسادة، وإشارة إلى "حصن الرناد" الذي يحتل موقعًا يعود إلى ما قبل الإسلام، وإلى حافة الغسالين، حيث بإمكان المرء الافتراض أنّ الصباغين كانوا هناك أيضًا. أمّا الآن فأكبر حافة هي "حافة السوق"، وهناك حافات أخرى، وهي "حافة الخِليف"، و"حافة السَّحيل" وهي عبارة عن شريط من الأرض بحذاء الجبل المطلّ على تريم، و"حافة النويدرة"، و"حافة الحاوي"، وهي "حوطة الحداد" (من السادة)، و"حافة الرُّضيمة"، و"حافة عيديد"، وهي ضاحية خارج سور المدينة، و"حافة المِجَف"، وهي حافة الغسالين القديمة، و"حافة السدة" (والسدة هي البوابة الكبيرة، وغالبًا ما تطلق على بوابة السور). غير أنّ خمسًا فقط من هذه الحافات هي المهمّة، أمّا الأخرى فهي "تابعة"، كما يقولون، للحافات الكبرى. وتوجد داخل مدينة تريم بضعة حوط، وحوطة باعلوي هي اليوم -على الأغلب- "حارة با شريف" القديمة. وباستثناء "حافة الحاوي"، يبدو أنّ تلك الحوط قد استُوعبت داخل البُنية العامة للأحياء. 

بشأن حافة السوق، يبدو أنّ "الدلَل" هم الذين يديرون شؤونها بصورة رئيسية، والذين إلى جانب وظيفتهم العامة، يعملون كوسطاء للقبائل الذين يصلون إلى منزل الدلّال عند قدومهم المدينة لبيع مواشيهم وشراء الملابس والتمر إلخ، ويظلون فيه حتى الانتهاء من قضاء حوائجهم في المدينة.

لقد اعتاد الدلل على التعامل مع الشهرة التي لديهم عند القبائل في البيع والشراء كقيمة تجارية. في بعض الأحياء الأخرى، يغلب الحوك، ولو أنّ في تريم أيضًا النجارين والحدادين، والفخارين والسمكريين والبنّائين وآخرين. وأفترض أنّ الحديث عن هذه الأحياء ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الحكومة ووظائفها ومناصبهم الوظيفية وحدودها والاحتفالات الدينية والقنص.

كل حافة يديرها رؤساؤها الذين يطلق عليهم "الأًبو" أو "الأُبو" (بالفتح والضم)، كما يطلق عليهم "المقادمة" (مفردها مقدَّم) أو "العقّال" (مفردها عاقل)، فمنهم الذين يدبرون شؤون الحافة ويقومون بتسوية النزاعات بين أفرادها. ويكمن ضعف نظام الحافات في حقيقة أنّها دومًا تتنازع فيما بينها. وتبيّن الصحف الحضرمية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عدة موضوعات عن هذه النزاعات التي يقتل فيها البعض أو يجرح البعض بالعصي- السلاح النموذجي للحافات.

أمّا السبب الرئيسي لهذه النزاعات فيكمن في احتكاكات المناسبات، عندما تحاول الحافة بموكبها الاحتفالي بالمناسبة الدينية أو الزمنية، أن تعبر حدود الحافة الأخرى- يظهر هذا في المؤلفات العربية بأنها السبب العام للنزاعات. ومن هذه المناسبات أيضًا، عند مخرج الحافة للقنص -والقنص طقس قديم، ورياضة في الوقت نفسه، مرتبط في الماضي والحاضر بالاستسقاء- وكذا عند زيارة النبي هود، بل وأحيانًا حتى عند عبور جنازة الميت. لتسوية النزاع، يتدخل طرف ثالث، وأحيانًا، كما هو في حالة عام 1911م، يتدخل السلطان (كان آنذاك السلطان حسن بن غالب الكثيري). وكان الضرب عقاب مَن يعبر حرمة حدود الحافة، وينفذه "الأبو". وبالطبع يمكن للمرء أن يسير ذهابًا وإيابًا في الطريق المعتاد بين الحوف، دون أن ينجم عن ذلك أية مشكلة. 

في القرن التاسع عشر، قسمت مدينة تريم إلى ثلاثة قطاعات قبلية بزعامة ثلاثة سلاطين من يافع، وفي الوقت نفسه، كانت الإجراءات المعتادة في التقاضي بين الحافات آنذاك، أو بين أي جماعات أخرى، أن يقسم الشهود في ضريح ولي، أو أن يلجأ إلى عقوبة "البِشْعَة"، فيكوى اللسان بسكين حارة أو محمرة- ويجري هذا في مدينة تريم، وهي المدينة الدينية المحافظة، مع أنّني أفترض بأن الإجراء الفعلي للبشعة لا ينفذ فيها.

كل حرفة تعمل على الاحتفاظ بصناعتها في عائلتها أو عائلاتها، وقد تجد ذلك في البنية الاجتماعية، إلى حدّ أنّه بدلًا من البحث عن البنّاء في تريم لإنجاز عملٍ من أعمال البناء، يمكنك أن تسأل عن با سمبل، وهي العائلة التي تتوارث حرفة البناء. كذلك بشأن مهنة حفر القبور التي تتوارثها عائلة با حريش، ما دام الاسم مرادفًا للمهنة. مثل هذه العائلات لا تسمح لغيرها بممارسة الحرفة التي تمتهنها لأجيال، إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا. ومهنة مثل النجارة يملك صاحبها الحق الحصري في تثبيت الأبواب. وفي تريم ينبغي عليك استئجار نجّار من نفس حافتك، ولا يجوز استبداله بآخر إلّا إذا استطعت أن تبيّن بأنّه أهمَلَ في عمله بطريقة أو بأخرى. وقد سمعت أنه في حالات، إذا ما احتكرت عائلةٌ حرفةً ما، بإمكانها اتخاذ إجراء قانوني ضدّ من يحاول كسر هذا الاحتكار، ولو أنّ ذلك حسب اعتقادي، من العادات السارية وليس من القواعد الشرعية الإسلامية.

إبان كساد الثلاثينيات في القرن العشرين، خرج البنّاؤون من تريم في إضراب، ردًّا على محاولة السادة تخفيض أجورهم، ونجحوا ليس فقط في تحقيق مطالبهم، بل وذهبوًا أيضًا إلى المطالبة بزيادة أجورهم. ومع ذلك أظنّه من الصعوبة بمكان، أن يطلق على هذه الحِرف والمهن اصطلاح "نقابة"، ولو أنّه في مدينتي المكلا والشحر الساحليتين، ربما كانت التنظيمات الحِرَفية أكثر قربًا إلى التنظيم النقابي القروسطي الغربي ممّا هو عليه الحال في تريم. ويبدو لي أنّ الحالة تلك كانت حقًّا تمثّل مرحلة من تطور المجتمع الحضري السابق على التنظيم النقابي القروسطي الأوروبي.

إنّ الندرة الشديدة للإشارات إلى أية مؤسسة نقابية في المؤلفات العائدة للعصر العباسي- يمكن ذكر رئيس المنظفين فقط عند الجاحظ- يمكن أن يشير إلى أنّ مثل هذا التنظيم النقابي كان صدى لما هو كائن في حضرموت اليوم. عمومًا، يُعرف الحرفيون في حضرموت بـ"الحَوَك"، وهم طبقة محتقرة بصورة واسعة في البلاد العربية في كل العصور، إلى حدّ أنّ ذلك مذكور في الحديث النبوي المتواتر. 

مع ذلك، ومن وثائق الحافات التي بحوزتي، نجد أنّ رؤساء الحافات ينتمون لمختلف الحرف. ومن الواضح أنّ العاملين في الطين أي الحرث، والبنّائين، والفخارين (الفخاريون)، في حضرموت هم عمال متنقلون أحيانًا- هم أدنى منزلة من بقية الحرفيين و"يتبعوهم".

عمومًا، تنظم الأحياء في حضرموت الخدمات الاجتماعية بصورة واسعة، وتدير الأعياد السنوية والمناسبات الاجتماعية. وبالاعتماد، وبصورة رئيسية على تجربتي في تريم، هناك حافة على الأقل تملك منزلًا وقفًا قرب الجامع، وبه حوض لغسيل الميت، وتجري صيانته بتكلفة تجمع بطريقة ما في السوق من قبل الرؤساء. وعند وفاة الفقير المعوز، تدفع الحافة تكلفة الدفن. ومنذ بضعة سنين، عندما كانت إحدى حافات مدينة غيل با وزير تحمل نعش أحد موتاها وتحاول عبور حدود حافة أخرى، منعت من ذلك، فاعترك الطرفان، غير مبالين بالنعش وبما فيه. وفي يناير من عام 1962م، عاقب السلطان الكثيري رؤساء حافة الحوطة بضربهم بسبب نزاع مع حافة أخرى بشأن عبور جنازة.

 

تقسيم صارم

ومهما كان الأمر، تظهر الحافة في حفلات الزواج في أفضل حالاتها؛ فهي توفّر العدة الضرورية للمأدبة، كالصحون والقدور، ويتوزع الرجال لتقديم الخدمات، كالبحث عن الحطب، وجلب الماء، وذبح الماشية، وتقديم الطعام. ففي مدينة الغيل، ودون ريب في أغلب الأماكن الأخرى، ينظم رؤساء الحافة رقصة "الشبواني" في أيام العرس، ولكن يمكن أن تنشب النزاعات حتى بشأن الرقص. ففي تريم عام 1951م، شارك شخصان من حافة أخرى في رقصة "الشبواني" في حافة " النويدرة "، ما أفضى إلى عراكٍ جُرح فيه ما لا يقل عن ستة أشخاص.

بشأن الحديث عن "المساكين" و"الضعفاء"، فثمّة تقسيم صارم بين مهام هؤلاء وأولئك. فـ"المساكين" -هم أصحاب الحوانيت والحرف الصغيرة- يؤدّون المهام في مناسبة الحداد، فهم يتناوبون في حمل نعش الميت، كما يقومون بخدمات حفلات الزواج. من الجدير بالذكر أنّ على صاحب العرس دعوة بعض الرؤساء كضيوف ليضمن تقديم الحافة خدماتها، أمّا "الضعفاء" أو العاملون في الطين -وبصورة رئيسية البنّاؤون والحرث- فلهم وظائف خاصة بهم، وتنسب إليهم، حصريًّا، أعمال تنظيف الآبار -"الغطيل"- عند الضرورة. وللاهتمام جيدًا للبئر، ينبغي إشعار "الأبو" الذي بدوره يرسل رجلًا لينزل إلى البئر لفحصها وتقييم ما يجب القيام به. عندما يستدعي "الأبو" "عيال الحافة" للقيام بالمهمة، يدفع مالك البئر الأجرة المطلوبة "للأبو" الذي يقسم المبلغ بين الرجال. ومن المتعارف عليه أنّه عند سماع نداء استغاثة الحريق أو الفيضان أو انهيار جدار منزل، على "الضعفاء" فورًا الاتجاه صوب النداء والتعامل مع الوضع، وإنقاذ أي شخص محجوز، وعلى أقرب شخص إحضار الرافعة (أو الدلاء إن كان حريقًا، أو الفؤوس والسلال لجرف التراب إن كان انهيار جدار). 

مرة أخرى، لا يجوز لأيّ شخص من حافة أخرى أن يتدخل للمساعدة، حتى وإن كان هو الأقرب إلى الحادث من رجال الحافة أنفسهم. والاصطلاح الشائع لهذه الحالات الطارئة في حضرموت هو: "غريق"، "حريق"، "بيت مهدم". والغريب في الأمر، أنّ هذه العبارة تشبه بالضبط تلك العبارة المقتبسة من قبل الجاحظ، قبل حوالي 1000 عام من العراق: "الحرق والغرق وميل الأسطوان". جدير بالإشارة إلى أنّ "الضعفاء" يتميزون برقصاتهم التي يؤدّونها في المناسبات الاحتفالية برقصة "الرزيح" الخاصة بهم.

في تريم تجمع الرسوم في "القفّان"، في حافة السوق الذي يديره الدلل. فعندما تصل، مثلًا، كمية من السمك لقبيلة المناهيل، على البائع والمشتري دفع نسبة مئوية للدلّال، الذي يقسمها على النحو التالي: يعطي جزءًا للدولة (السلطان)، وجزءًا آخر للدلال، ويجعل نصيبًا لحفّار القبور، ويترك نصيبًا للحمّال الذي يحمل السمك إلى البيت أو دكان المشتري، ويترك نصيبًا لإعالة الأبناء غير الشرعيين. لذلك نجد هنا عادة قديمة غريبة: قرب القفان نافذة صغيرة في السور تدعى "طاقة الفرخ" التي إليها تأتي المرأة التي تلد ابنًا غير شرعي لتضعه بسرية تحت تلك النافذة، وعندما يجدون الطفل الوليد، تأخذه "جمعية" الحافة الخيرية لترعاه. أمّا المصدر الآخر للعائدات فيأتي من بيع جلود الحيوانات المذبوحة في السوق. وتسلم هذه المبالغ للحافة. في عام 1954م، عندما كنت أجمع مواد هذه المعلومات، كان لافتًا لي أنّه لم يكن متوفرًا أيّ مبلغ مالي في خزينة حافة السوق آنذاك، لأنّ "المقادمة" "أكلوا" كل مالية الحافة، ولو أنّ الحافات، عادة، تحتفظ بمبلغ للطوارئ. 

أما بشأن عادة الرقص في مناطق العربية الجنوبية، فإلى جانب الرقص الذي تنظمه الحافة للرجال فقط -بالطبع ترقص النساء في بيوتهن- هناك العديد من المناسبات الأخرى في العربية الجنوبية، تجد فيها نوعًا من الأعياد الدينية التي يعود بعضها إلى فترة ما قبل الإسلام الوثنية. من هذه المناسبات "رحلة رعاة البقر"، حيث يخرج فيها ملاك ثيران الحراثة للرقص، و"ينعشون" بشعورهم ظنًّا منهم بأنّ هذه الرحلة تعود عليهم بالخير والوفرة في مواشيهم، كما نجد أيضًا عادة "القنيص" (قنص الوعل)، وهي العادة التي لها علاقة بالاستسقاء، ولذلك فهي تتميز بإجراءات صارمة لأداء الطقس. 

من المناسبات القديمة أيضًا، زيارة النبي هود (عليه السلام). وقد شاركت في إحدى هذه الزيارات، كما شاهدت، مؤخرًا الحارات وهي ترحب بعودة زوّار قبر النبي هود.

لكل حافة "حي" ولي خاص بها، والذي يعدّ الحامي لها، فولي "حافة السوق" هو عمر المحضار؛ كما لكلّ حافة صرختها أو صيحتها الخاصة بها، وغالبًا ما تتضمّن اسم وليها، مثل: عمر المحضار.

أحد هؤلاء الأولياء، وهو من عائلة المشايخ، ويعرف بـ"صاحب الوعل". ومع أنّ بعض الأولياء ينتسبون إلى المشايخ، فإنّ أكثر الأولياء في تريم هم من السادة.

 

•هُوية خاصة

ثمّة شعور بأن لمدينة تريم شخصيتها المميزة لها- تمامًا كما هو عليه حال مكة. ويعود حرمها، كما هو عليه اليوم، إلى عهد قديم. فمثلًا، عندما جرت قبل حوالي ثلاثين عامًا [من نشر هذا البحث] محاولة بناء مطار قرب المدينة، أهملت هذه المحاولة بعد حادثة اصطدام طائرة؛ والسبب في هذا الإهمال أنّ المدينة أو أسلاف المدينة المتدينين -لم أعد أتذكر حسب ما أخبرني أحد المشائخ- ليسوا بحاجة إلى مطار. ولعله يمكن تعريف مدينة تريم بأنها مدينة "عبدل" (خادم الإله)، حسب ما يذكره ياقوت.

يحتشد في مدينة تريم الكثير من الأولياء، الأموات منهم والأحياء الذين يسكنونها، ولو أنّ الأحياء منهم ليسوا معروفين كأولياء. ويتقيد الحضارمة العائدون من المهجر بعادة زيارة المقابر وجدودهم الصالحين المدفونين في هذه المقابر، قبل الذهاب إلى بيوتهم. وهناك ثلاث مقابر داخل سور تريم، إحداها للسادة، والثانية للمشايخ (الأرستقراطية الدينية من غير السادة)، والثالثة للمساكين، بل وهناك مسجد يعود للقديس المسيحي قبل الإسلام، وهو القديس سرجيس.


التعليقات